بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وأهل أعداءهم ... ياكريم
لما عرفت أن المراد منها ذكر أخيك بما يكرهه منه لو بلغه أو الاعلام به والتنبيه عليه، كان ذلك شاملا لما يتعلق بنقصان في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو قوله أو دينه أو دنياه حتى في ثوبه وداره ودابته.
وقد أشار الإمام الصادق لما روي عنه (عليه السلام) إلى ذلك بقوله:وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق والفعل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه. مصباح الشريعة: ص205
فالبدن كذكرك فيه: العمش والحول، والعور والقرع، والقصر والطول، والسواد والصفرة، وجميع ما يتصوران يوصف به مما يكرهه.
وأما النسب بأن يقول: ابوه فاسق، أو خبيث، أو خسيس، أو اسكاف، أو تاجر، أو حائك، أو جاهل، أو نحو ذلك مما يكرهه كيف كان .
وأما الخلق بأن يقول: أنه سيئ الخلق، محيل، متكبّر، مرائي، شديد الغضب، جبان، ضعيف القلب، ونحو ذلك .
وأما في أفعاله المتعلقة بالدين كقولك: سارق، كذاب، شارب الخمر، خائن، ظالم، متهاون للصلاة، لا يحسن الركوع والسجود، ولا يحترز من النجاسات، ليس باراً بوالديه، لا يحرس نفسه من الغيبة والتعرض لأعراض الناس .
وأما فعله المتعلق بالدنيا كقولك: قليل الأدب، متهاون بالناس، لا يرى لأحد عليه حقا، كثير الكلام، كثير الأكل، نؤوم يجلس في غير موضعه، ونحو ذلك .
وأما في ثوبه كقولك: انه واسع الكم، طويل الذيل، وسخ الثياب، ونحو ذلك .
واعلم أن ذلك لا يقصر على اللسان بل التلفظ به، إنما حرّم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك، وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح والفعل فيه، كالقول والاشارة والرمز والايماء والغمز واللمز والكتبة والحركة، وكل ما يفهم المقصود داخل في الغيبة مساوٍ للسان في المعنى الذي حرم التلفظ به لأجله.
ومن ذلك ما روي عن عائشة أنها قالت: دخلت علينا امرأة، فلما ولت أومأت بيدي أي قصيرة، قال (صلى الله عليه وآله ): اغتبتها. تنبيه الخواطر : ج1 ص118
ومن ذلك المحاكاة بأن يمشي متعارجا أو كما يمشي، فهو غيبة بل أشد من الغيبة، لأنه أعظم في التصوير والتفهيم، وكذلك الغيبة بالكتاب فإن الكتاب كما قيل أحد اللسانين.. ومن ذلك ذكر المصنف شخصا معينا وتهجين كلامه في الكتاب، إلا ان يقترن به شيء من الاعذار المحوجة إلى ذكره، كمسائل الاجتهاد التي لا يتم الغرض من الفتوى وإقامة الدليل على المطلوب إلا بتزييف كلام الغير ونحو ذلك. ويجب الاقتصار على ما يندفع به الحاجة في ذلك وليس منه قوله: قال قوم كذا،ما لم يصرّح بشخص معين.
ومنها أن يقول الانسان: بعض من مر بنا اليوم، أو بعض من رأيناه حاله كذا، إذا كان المخاطب معهم، ليفهم منه شخصا معينا، لأن المحذور تفهيمه دون ما به التفهم، فأماإذا لم يفهم عنه جاز.روي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)إذا كره من إنسان شيئا قال:ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا. [ إحياء علوم الدين : ج3 ص 137] ولا يعين.
ومن أضر أنواع الغيبة، غيبة المتسمين بالفهم والعلم المرائين، فإنهم يفهمون المقصود على صفة أهل الصلاح والتقوى، ليظهروا من أنفسهم التعفف عن الغيبة ويفهمون المقصود، ولا يدرون بجهلهم أنهم جمعوا بين فاحشتين الرياء والغيبة، وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بحب الرياسة أو حب الدنيا أو بالتكيف بالكيفية الفلانية، أو بقول: نعوذ بالله من قلة الحياء أو من سوء التوفيق، أو نسأل الله أن يعصمنا من كذا، بل مجرد الحمد على شيء اذا علم منه اتصاف المحدث عنه بما ينافيه ونحو ذلك، فإنه يغتابه بلفظ الدعاء وسمت أهل الصلاح. وإنما قصده أن يذكر عيبه بضرب من الكلام المشتمل على الغيبة والرياء ودعوى الخلاص من الرذائل وهو عنوان الوقوع فيها بل في أفحشها. ومن ذلك أنه قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول: ما أحسن احوال فلان ما كان يقصر في العبادات، ولكن قد اعتراه فتور وابتلى بما يبتلى به كلنا وهو قلة الصبر، فيذكر نفسه بالذم ومقصوده ان يذم غيره وان يمدح نفسه بالتشبه بالصالحين في ذم أنفسهم، فيكون مغتابا مرائيا مزكيا نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش وهو يظن بجهله أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة، هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعلم والعمل من غير ان يتقنوا الطريق، فيتبعهم ويحبط بمكائده عملهم، ويضحك عليهم ويسخر منهم .
ومن ذلك ان يذكر ذاكر عيب انسان فلا ينتبه له بعض الحاضرين، فيقول: سبحان الله ما أعجب هذا!.. حتى يصغي الغافل إلى المغتاب ويعلم ما يقوله، فيذكر الله سبحانه ويستعمل اسمه آلة في تحقيق خبثه وباطله، وهو يمن على الله بذكره جهلا وغروراً، ومن ذلك أن يقول: جرى من فلان كذا أو ابتلى بكذا، بل يقول: جرى لصاحبنا أو صديقنا كذا تاب الله عليه وعلينا، يظهر الدعاء له والتألم والصداقة والصحبة، والله مطلع على خبث سريرته وفساد ضميره، وهو بجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقتٍ أعظم مما يتعرض له الجهال إذا جاهروا بالغيبة .
ومن أقسامها الخفية الاصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب، فإنه انما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة، فيزيد فيها فكأنه يستخرج منه الغيبة بهذا الطريق، فيقول: عجبت مما ذكرته ما كنت أعلم بذلك إلى الآن، ما كنت أعرف من فلان ذلك، يريد بذلك تصديق المغتاب، واستدعاء الزيادة منه باللطف، والتصديق لها غيبة بل الاصغاء اليها بل السكوت عند سماعها.
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): المستمع أحد المغتابين.[ تنبيه الخواطر : ج1 ص 119]، وقال علي (عليه السلام): السامع للغيبة أحد المغتابين .غرر الحكم : ص 74 ح1686/ ط القارئ
ومراده السامع على قصد الرضا والايثار، لا على وجه الاتفاق أو مع القدرة على الانكار ولم يفعل، ووجه كون المستمع والسامع على ذلك الوجه مغتابين مشاركتهما للمغتاب في الرضا، وتكيف ذهنهما بالتصورات المذمومة التي لا تنبغي، وان اختلفا في أن أحدهما قائل والآخر قابل لكن كل واحد منهما صاحب آلة عليه، أما احدهما فذو لسان يعبر عن نفس قد تنجست بتصور الكذب والحرام والعزم عليه وأما الآخر فذو سمع تقبل عنه النفس تلك الآثار عن ايثار وسوء اختيار فتألفها وتعتادها فتمكّن من جوهرها سموم عقارب الباطل. ومن ذلك قيل السامع شريك القائل. وقد تقدم في الخبر السالف ما يدل عليه حيث قال (ص) للرجلين الذين قال أحدهما اقعص الرجل كما يقعص الكلب: انهشا من هذه الجيفة!.. فجمع بينهما مع أن احدهما قائل والآخر سامع، فالمستمع لا يخرج من اثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه فإن خاف فبقلبه وان قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام غيره فلم يفعله لزمه، ولو قال بلسانه اسكت وهو يشتهي ذلك بقلبه فذلك نفاق وفاحشة اخرى زائدة لا يخرجه عن الإثم ما لم يكرهه بقلبه.
وقد روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: من أُذل عنده مؤمن وهو يقدر على ان ينصره، أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق. احياء علوم الدين: ج3 ص 138
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من رد الخلائق عن عرض أخيه بالغيب، كان حقا على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة. تنبيه الخواطر : ج1 ص 119
وروي أيضاً:من ردّ عن عرض أخيه بالغيبة، كان حقا على الله أن يعتقه من النار. تنبيه الخواطر : ج1 ص 119
وروى الصدوق باسناده إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)روي أنه قال: من تطول على اخيه في غيبة سمعها عنه في مجلس فردها عنه، رد الله عنه الف باب من الشر في الدنيا والآخرة، وان هو لم يردها وهو قادر على ردها، كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرة. أمالي الصدوق : ص 350
وبإسناده إلى الباقر روي عنه (عليه السلام) أنه قال: من اغتيب عنده اخوه المؤمن فنصره وأعانه، نصره الله في الدنيا والآخرة، ومن لم ينصره ولم يدفع عنه وهو يقدر على نصرته وعونه [حفظه] الله في الدنيا والآخرة. المحاسن : ص 103 ح81
واعلم انه كما يحرم على الانسان سوء القول في المؤمن وان يحدث غيره بلسانه بمساوئ الغير، كذلك يحرم عليه سوء الظن وان يحدث نفسه بذلك، والمراد من سوء الظن المحرم عقد القلب وحكمه عليه بالسوء من غير يقين .
وأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه، كما أن الشك ايضا معفو عنه قال الله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم}.[ سورة الحجرات آية 12 ] فليس لك ان تعتقد في غيرك سوءاً إلا اذا انكشف لك بعيان لا يحتمل التأويل، وما لم تعلمه ثم وقع في قلبك فالشيطان يلقيه اليك، فينبغي ان تكذبه فإنه أفسق الفساق، وقد قال الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة}.[ سورة الحجرات آية 6 ].. فلا يجوز تصديق ابليس.
ومن هنا جاء في الشرع أن من علمت فيه رائحة الخمر، لا يجوز ان يحكم عليه بشربها ولا يحده عليه، لإمكان ان يكون تمضمض به ومجه، أو حمل عليه قهرا، وذلك أمر ممكن فلا يجوز إساءة الظن بالمسلم .
وقدروي عن النبي (صلى الله عليه وآله): إن الله تعالى حرم من المسلم دمه وماله وان يظن به ظن السوء. [احياء علوم الدين : ج3 ص 142].. فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به الدم والمال، وهو متيقن مشاهدة أو بينة عادلة، أو ما جرى مجراهما من الأمور المفيدة لليقين، أو الثبوت الشرعي.
و روي عن ابي عبد الله (عليه السلام): إذا اتهم المؤمن اخاه ينماث الايمان من قلبه كما ينماث[ماثه موثا ومثانا محركة: خلطه ودافه . انماث أي اختلط وذاب] الملح في الماء . الكافي : ج2 ص 361
وروي عنه:من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما . الكافي : ج2 ص 361.. ["فلا حرمة بينهما" أي انقطعت علاقة الاخوة، وزالت الرابطة الدينية بينهما].
وروي عنه (عليه السلام) قال : قال أمير المؤمنين في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت تجد لها في الخير محملا. الكافي : ج2 ص 362.. ["ضع أمر أخيك" أي احمل ما صدر عن اخيك من قول أو فعل على أحسن محتملاته وان كان مرجوحا عن غير تجسس حتى يأتيك منه أمر لا يمكنك تأويله فإن الظن قد يخطئ والتجسس منهي عنه].
وطريق معرفة ما يخطر في القلب من ذلك، هل هو ظن سوء أو اختلاج وشك؟.. ان تختبر نفسك، فإن كانت قد تغيرت ونفر قلبك عنه نفوراواستثقلته وفترت عن مراعاته وتفقده واكرامه والاهتمام بحاله والاغتمام بسببه غير ما كان أولا، فهو إمارة عقد الظن.
وقد وري عنه (عليه السلام): ثلاثة في المؤمن وله منها مخرج: فمخرجه من سوء الظن أن لا تحققه[ إحياء علوم الدين : ج3 ص 143 ] أي لا تحقق في نفسه بعقد ولا فعل لا في القلب ولا في الجوارح..أما في القلب فبتغييره إلى النفرة والكراهة.. وفي الجوارح بالعمل بموجبه، والذي ينبغي فعله عند خطور خاطر سوء على مؤمن ان يزيد في مراعاته، ويدعو له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك، فلا يلقى إليك بعد ذلك خاطر سوء خيفة من اشتغالك بالدعاء والمراعاة وهو ضد مقصوده، ومهما عرفت هفوة من مؤمن فانصحه في السر، ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، واذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه، لينظر إليك بعين التعظيم وأنت تنظر اليه بعين الاستصغار، وترتفع عنه بدالّة الوعظ، بل يكن قصدك تخليصه من الإثم، وأنت حزين كما تحزن على نفسك إذا أدخل عليك نقصان .
وينبغيأن يخطر بقلبك ان تركه ذلك من غير نصيحتك، أحب إليك من تركه بالنصيحة، فإذاأنت فعلت ذلك كنت قد جمعت بين أجر الوعظ وأجر الغم بمصيبته وأجر الاعانة له على دينه .
ومن ثمرات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن، ويطلب التحقيق، فيشتغل بالتجسس، وهو أيضاً منهي عنه .
قال الله تعالى : {ولا تجسسوا}[.سورة الحجرات آية 12].. وقد نهى الله سبحانه في هذه الآية الواحدة عن الغيبة وسوء الظن والتجسس، ومعنى التجسس أن لا تترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر، حتى ينكشف لك ما لو كان مستوراً عنك كان أسلم لقلبك ولدينك، فتدبر ذلك راشدا وبالله التوفيق.