ن كثير من الباحثين أنهم يحسنون صنعا حينما يربطون بين الإسلام وبين بعض القضايا التي استجدت في العصر الحديث، فيجهدون أنفسهم ويبددون طاقاتهم في البحث عن صلة – ولو واهية- بين الإسلام وبين هذه القضية أو تلك، وربما اعتسف بعضهم الطريق وحاد عن المنهج العلمي الرصين، فزعم أن القرآن يتضمن أصول هذا الفن المستحدث، ومبادئ ذلك الفن الآخر الجديد، فيسيئون إلى الإسلام من حيث يريدون خدمته؛ لأنهم يحولون القرآن الكريم إلى كتاب طلاسم، يمكن لكل أحد أن يفسره حسب هواه، و يقول فيه برأيه ما يخطر بباله أو يختلج في صدره، ومن هذا القبيل ما قٍرأته لأحد الباحثين حيث ادعى أن القرآن يتضمن " أفكارا موسيقية حرة" وسياق كلامه يدل على أنه يريد الموسيقى الصوتية، و لا يقصد الموسيقى اللغوية، بدليل أنه شبه الموسيقى القرآنية بما يصدر عن الأغصان عندما تداعبها الرياح، وأنه دعا الفنانين إلى دراسة الموسيقى من جرس القرآن الكريم، مما دفعني إلى بذل بعض الجهد في قراءة كتب الفن والموسيقى لأقف على حقيقة هذه الدعوى، فشعرت أنني ألج عوالم كنت أجهلها تماما، ولكنني أيضا اكتشفت أن كلام الباحث فيه انتهاك لحرمة القرآن الكريم؛ لأنه يجرده من حرمته التي توجبها القداسة التي يستمدها من كونه كلام الله الذي { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } وأنه كتاب هداية للبشرية { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } وتخصيص القرآن الكريم بالذكر والإشارة، يدل على أنه هو الكتاب الوحيد الذي يهدي إلى الصراط المستقيم، وليس أي كتاب آخر في هذا الوجود؛ فكل الكتب الآخرى نسخها القرآن الكريم الذي نزل ليكون منهج حياة للبشرية جمعاء يهديها لما يصلحها في الدنيا والآخرة { تبيانا لكل شيء } لقد جاء القرآن الكريم لهدف واضح لا لبس فيه ولا غموض { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور }. جاء القرآن الكريم ليخرج الناس من الظلمات التي لا يمكن لعقولهم أن تهتدي إلى طريق الخروج منها، إلى النور فيتبينوا حقيقة هذا الوجود، ويعرفوا حقيقة هذا الكائن اللغز " الإنسان" ويعلموا ما يجب عليهم تجاه ربهم وتجاه بعضهم البعض وتجاه هذا الوجود
الموسيقى اللغوية والموسيقى الصوتية:
إن منشأ الالتباس الذي جعل البعض يدعي بأن في القرآن ألحانا موسيقية يعود إلى الخلط بين الموسيقى اللغوية والموسيقى الصوتية، فمما هو متفق عليه لدى المتخصصين أن كل لغة من لغات العالم لا تخلو من موسيقى لغوية تختلف درجة زخامتها من لغة إلى أخرى، ولكن الموسيقى اللغوية ليست هي الموسيقى الصوتية التي تعتمد على عنصري الإيقاع والنغم وتصدر عن الآلات الموسيقية بأنواعها الثلاثة الرئيسة:
1 - الآلات الوترية.
2 - والآلات الإيقاعية.
3 - والآلات الهوائية.
وإذا كان بين الموسيقى اللغوية والموسيقى الصوتية تشابه كبير فإن بينهما من الخلاف ما هو أكبر، فالموسيقى اللغوية مدارها على طريقة بناء الكلمة وتركيب الجملة وكيفة نطق الحروف حسب المتعارف عليه في كل لغة، بينما تقوم الموسيقى الصوتية على التوافق الصوتي الخالص بين الألحان، بينما لا تقوم اللغة على التوافق الخالص في كل الحالات، فقد توجد كلمات لغوية ليس بين أحرفها توافق أصلا بل يوجد بينها تنافر قد يصل إلى حد يجعل نطقها يستعصي على اللسان لما بين أحرفها من تنافر شديد، ومثالها في اللغة العربية "مستشزرات " و " الهعخع" بينما لا يمكن أن تعتبر الألحان " موسيقى" إلا إذا قامت على عنصري التوافق والانسجام التامين الذين لا يشوبهما تنافر أونشاز.
ويزداد زخم الموسيقى اللغوية في الشعر – وهذا سر من أسرار استحسان النفس له – شأنه في ذلك شأن اللغة العربية عامة، حيث ذهب كثير من الباحثين إلى أن اللغة العربية تمتاز من بين لغات العالم بخصوبة موسيقاها اللغوية وطغيان هذه الموسيقى إلى درجة أن أحد الباحثين قال بأن " كل كلام عربي يمكن أن يحول إلى رموز موسيقية تتشابه وتختلف وتتكرر وتتناظر حتى يتألف من مجموعها قطعة موسيقية" وهذا لا ينفي أن اللغات الأخرى لا توجد فيها موسيقى لغوية تصل من التجانس إلى الحد الذي يجعلها مجالا خصبا لأن يستلهم منها بعض الفنانين ألحانهم الموسيقية، فقد كان الموسيقار الروسي " موسورسكي " – حسب ما قاله الدكتور فؤاد زكريا - يستلهم أكثر ألحانه من إيقاعات اللغة وتنغيم أصواتها . بل ذهب بعض الدارسين إلى أبعد من ذلك حيث قالوا بأن القدرة الصوتية اللغوية هي أصل الموسيقى، في حين ذهب آخرون إلى العكس فادعوا بأن الموسيقى هي أصل اللغة؛ لأن الموسيقى لغة طبيعية يفهمها الجميع. وهذا ما يبين قوة الترابط بين اللغة وبين الموسيقى
الفرق بين الكلام وبين الموسيقى
إن الموسيقى ضرب من ضروب الكلام الكثيرة، قال الشاعر
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلا
لكنها كلام العواطف عندما يستبد بها الجمال، وصوت المشاعر عندما ترفرف في ملكوت الفن تنشد مناجاة الروح تارة، ودغدغة الغرائز الهابطة تارة أخرى، إن الموسيقى لغة وكلام لكن أحرفها وأصواتها تختلف عن أحرف الكلام المعهود وأصواته، وعندما نريد أن نتلمس الخطى لبيان الفرق بين الكلام وبين الموسيقى، نجد أنفسنا نلج إلى جوهر الموسيقى، فالموسيقى مجرد توافق صوتي خالص، وهي تستمد قيمتها من نفسها وليس من أمر خارج عنها، فهي غاية تراد لذاتها وليست وسيلية إلى أمر آخر، أما الكلام فهو مجموعة من الرموز الصوتية التي لا تراد لذاتها وإنما تراد لأمر خارج عنها وهو "المدلول" الذي وضع الرمز الصوتي ليدل عليه في عرف التخاطب.
فالكلام وسيلة يتوصل بها إلى فهم المعنى، وليس غاية تراد لذاتها، والموسيقى غاية وليست وسيلة. وجمال كل منهما يصل إلى النفس من منفذ غير المنفذ الذي يصل منه جمال الآخر يقول الدكتور " ميخائيل الله وردي" في كتابه فلسفة الموسيقى الشرقية"
" أن الشعور بجمال الكلام يصل إلى النفس عن طريق الذهن الذي يختزن لكل كلمة معنى خاصا بها فاجتماع معان عدة كلمات قد يشكل جمالا تشعر به النفس ، وهذا الجمال يقوى أو يضعف باستبدال كلمة بأخرى أو بإحلال عبارة مكان سواها وهو أمر يمكن أن يقوم به كل متعلم حسب قوة موهبته ودرجة اطلاعه.
أما الشعور بجمال الموسيقى فإنه يصل إلى النفس مباشرة عن طريق السمع لأن الكلمات الموسيقية المركبة من الأصوات لا تدل كل بمفردها على معنى خاص بها ، ولكن العبارة الموسيقية بكاملها قد تحمل قوة معنوية تؤثر في النفس مباشرة دون أن يحلل الذهن معنى كل مقطع صغير منها"
الموسيقى والشعر
ظلت الموسيقى والشعر ردحا طويلا من الزمن توأمين لا ينفك أحدهما عن الآخر، وكانت العلاقة بينهما علاقة امتزاج، ثم بدأ الفتور يدب إلى هذه العلاقةرويدا رويدا، حتى صارا على حال الطلاق البائن أحيانا، ووضع الشعر موضع المعلقة أحيانا أخرى، يقول فؤاد زكريا " إن الشعر يسعى دائما للاتحاد بالموسيقى؛ وهذا الاتحاد يضفي عليه قوة في حين أن الموسيقى تسعى إلى الاستقلال عن الشعر وتهرب منه، وربما كان تاريخها كله محاولة للتخلص من التأثير المفرط للأدب"
وقد بين شوبنهور" أن الموسيقى ليست في حاجة إلى غير الأصوات أما ما يثير هذه الأصوات من ألفاظ ومناظر وحركات فلا يعني الموسيقى كثيرا ...إن الموسيقى لا تبلغ مرتبتها العليا إلا حينما تكون مبرأة من الألفاظ والمناظر والأفعال وهذا ما يتم تمامه ويبلغ طبقته العليا في السمفونيات "
وهذا لا ينفي أن الغناء العربي - قبل أن يصبح تقليدا ومحاكاة للغناء الغربي – كان يبدأ باختيار الملحن لكلمات الأغنية بعناية كبيرة، ودقة متناهية أولا، ثم يقوم باختيار أكثر الألحان مناسبة لتلك الكلمات، حتى تصير الموسيقى روحا والكلمات جسدا فيدمج الكلمات في اللحن في توليفة رائعة تضفي على الكلمات قوة وسحرا، فإذا ما غناها فنان ماهر يحس المستمع العربي – وهو يندمج في طبقات ألحان الأغنية – أنها تبعث فيه مشاعر وأحاسيس نبيلة وتدفعه إلى التأمل الهادئ لقيامها على كلمات تحمل أفكارا عظيمة ورؤى كبيرة كما توحي به – والعهدة على الشيخ محمد الغزالي رحمه الله - أغنية:
أخي جاوز الظالمون المدى *** فحق الجهاد وحق الفــــدا
أنتركهم يغصبون العروبة *** مجد الأبوة والســــــــــؤددا
وليسوا بغير صليل السيوف *** يجيبون صوتا لنا أو صدى
فجرد حسامك من غمده *** فليس له بعد أن يغمــــــــــدا
أخي أيها العربي الأبي *** أرى اليوم موعدنا لا الغـــــــــــدا
أخي أقبل الشرق في أمة *** ترد الضلال وتحيي الهــــــــدى
أخي إن في القدس أختا لنا *** أعد لها الذابحون المـــــــــــدى
ولكن هذا الأمر ظل يمثل الاستثناء من عهد بني العباس إلى يومنا هذا فجل الغناء العربي هيام بالمرأة وسفر منها وإليها، ووقوف على أطلالها، ثم صار الغناء العربي – فيما بعد - تقليدا أعمى للغناء الغربي ولم يعد للكلمة في الموسيقى العربية شأن مثل الموسيقى الغربية تماما وصار المستمع العادي لا يعبه بالكلمات وإنما همه اللحن الجميل والصوت الرخيم، ولو كانت كلمات الأغنية سخيفة ليس لها أي معنى، وأما المستمع المتخصص فإنه ينشد الموسيقى المبرأة من الكلمات لأنه يسعى لإخراج الموسيقى العربية من مرحلة التطريب والزخرفة التي هي سمة الموسيقى الشرقية إلى طور الموسيقى "الهارمونية" التعبيرية ، ويتأسفون لأن الموسيقى "الخالصة الصافية لا تزال غائبة عن وجداننا وتذوقنا الشعبي ولا تزال "الأغنية" دون إنكار لضرورتها ودورها هي المسيطرة الغالبة"– حسب محمود أمين العالم – الذي يقول بأن الموسيقى " هي خلاصة الخلاصة المركزة المجردة العميقة للفكر والذوق والوجدان والخبرة القومية والإنسانية ، فإذا تسطحت أو تشتت أو ابتذلت تسطحت وتشتت وابتذلت أفكارنا وأذواقنا ووجداننا وخبرتنا" لأن قضية الموسيقى في رأيه " قضية كبيرة وأساسية في مجال التنوير والتنمية الثقافية والنهضوية وتحتاج إلى عناية خاصة" .
القرآن والموسيقى اللغوية
العلاقة بين القرآن الكريم والموسيقى اللغوية علاقة وطيدة فموسيقى القرآن اللغوية من أروع أنواع الموسيقى اللغوية وأجملها على الإطلاق وأشدها تجانسا وأكثرها تناغما وانسجاما وهي موسيقى ناشئة من تخير الكلمات وترتيب الحروف والجمل حسب أصواتها ومخارجها وما بينها من تناسب في الجهر والهمس والشدة والرخاوة...... إلى درجة أن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي اعتبر في كتابه " إعجاز القرآن الكريم " أن هذه الموسيقى جزء من إعجاز القرآن الكريم، ولكن هذه الموسيقى لا تخرج عن كونها موسيقى لغوية هدفها هز مشاعر النفس وإذكاء الروح حتى تستجيب لأمر الله وتنقاد لشرعه.
وقد ورد في الحديث الصحيح "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغى بالقرآن"
حقيقة الموسيقى القرآنية؟
يرى كثير من الباحثين أن الموسيقى القرآنية يصعب شرحها لما تمتاز به من عمق وسحر لا يعرف مصدره تحديدا وإن كان من الممكن الحديث عنه أو تفسيره تخمينا يقول سيد قطب:" على أن هناك نوعا من الموسيقى الداخلية يلحظ ولا يشرح، وهو كامن في نسيج اللفظة المفردة وتركيب الجملة الواحدة، وهو يدرك بحاسة خفية وهبة لدنية" وقد نحا الدكتور مصطفى محمود هذا المنحى حيث يقول معلقا على قوله تعالى } ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى، فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم. وأضل فرعون قومه وما هدى} كلمات في غاية الرقة مثل (يبسا) أو لا تخاف (دركاً) " إن الكلمات لتذوب في يد خالقها وتصطف وتتراص في معمار ورصف موسيقي فريد، هو نسيج وحده بين كل ما كتب بالعربية سابقاً ولا حقاً لا شبيه بينه وبين الشعر الجاهلي، ولا بينه وبين الشعر والنثر المتأخر، ولا محاولة واحدة للتقليد حفظها لنا التأريخ، برغم كثرة الأعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن. في كل هذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصها تماماً، وكأنها ظاهرة بلا تبرير ولا تفسير، سوى أن لها مصدراً آخر غير ما نعرف".
ويضيف الدكتور مصطفى محمود معبرا عن دهشته وانبهاره بأسلوب القرآن الكريم معلقا على قوله تعلى { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر { " إنك لتشعر بشيء غير بشري تماماً في هذه الألفاظ الهائلة الجليلة المنحوتة من صخر صوان، وكأن كل حرف فيها جبل الألب. لا يمكنك أن تغير حرفاً أو تستبدل كلمة بأخرى، أو تؤلف جملة مكان جملة، تعطي نفس الإيقاع والنغم والحركة والثقل والدلالة...وحاول وجرب لنفسك في هذه العبارة البسيطة ذات الكلمات العشر، أن تغير حرفاً أو تستبدل كلمة بكلمة!" ويخلص الدكتور مصطفى محمود إلى أن هذا هو السر الذي جعل القرآن يسبي قلوب العرب " ولهذا وقعت العبارة القرآنية على آذان عرب الجاهلية الذين عشقوا الفصاحة والبلاغة وقع الصاعقة"
ولا يبتعد مصطفى صادق الرافعي عن هذا المعنى حيث يقول عن الموسيقى القرآنية" فلما قٍرئ عليهم [ يعني قريشا ] القرآن رأوا حروفه في كلماته وكلماته في جمله ألحانا لغوية رائعة، كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة قراءتها هي توقيعها، فلم يفتهم هذا المعنى وأنه أمر لا قبل لهم به؛ وكأن ذلك أبين في عجزهم حتى إن من عارضه منهم كمسيلمة جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظما موسيقيا أو بابا منه وطوى عما وراء ذلك من التصرف في اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البياني، كأنه فطن إلى أن الصدمة الأولى للنفس العربية إنما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها وليس يتفق ذلك في شيء من كلام العرب إلا أن يكون وزنا من الشعر أو السجع" ثم يزيد هذا المعنى بيانا فيقول " وأنت تتبين ذلك إذا أنشأت ترتل قطعة من نثر فصحاء العرب أو غيرهم على طريقة التلاوة في القرآن، مما تراعي فيه أحكام القراءة وطرق الأداء فإنك لا بد ظاهر بنفسك على النقص في كلام البلغاء وانحطاطه في ذلك عن رتبة القرآن"
الإيقاع الموسيقي في القرآن الكريم:
وقد حاول سيد قطب أن يشرح حقيقة الموسيقى القرآنية فقال " إن في القرآن إيقاعا موسيقيا متعدد الأنواع يتناسق مع الجو ويؤدي وظيفة أسايسة في البيان فالإيقاع الموسيقي في القرآن الكريم ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات وتناسق الكلمات في الجمل، ومرده إلى الحس الداخلي والإدراك الموسيقي الذي يفرق بين إيقاع موسيقي وإيقاع ولو اتحدت الفواصل والأوزان وحيثما تلا الإنسان القرآن أحس بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه يبرز بروزا واضحا في السور القصار والفواصل السريعة ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة ويتوارى قليلا أو كثيرا في السور الطوال حتى تنفرد الدقة دونه في آيات التشريع"
ويقترب الرافعي قليلا من سر هذه الموسيقى فيقول " فتألفت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره أو أقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللا بينا أو ضعفا ظاهرا في نسق الوزن وجرس النغمة وفي حس السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت لذلك هجنة في السمع كالذي تنكره من كل مرئي لم تقع أجزاؤه على ترتيبها، ولم تتفق على طبقاتها، وخرج بعضها طولا وبعضها عرضا"
أما سيد قطب فيقترب أكثر من الجوهر إذ يقول" وهكذا تتبدى تلك الموسيقى الداخلية في بناء التعبير القرآني، موزونة بميزان شديد الحساسية تمليه أخف الحركات والاهتزازات ولو لم يكن شعرا ولو لم يتقيد بقيود الشعر الكثيرة التي تحد من الحرية الكاملة في التعبير الدقيق عن القصد المطلوب"
الموسيقى القرآنية تابعة للموضوع الذي تتكلم عنه الآيات القرآنية:
يرى سيد قطب رحمه الله تعالى أن الموسيقى القرآنية تتنوع تبعا للموضوع الذي تتحدث عنه الآيات القرآنية حيث يقول بأن " التكوين الموسيقي في قوله تعالى { وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم { يذهب طولا وعرضا في عمق وارتفاع ليشترك في رسم الهول العريض العميق والمدات المتوالية المتنوعة في التكوين اللفظي للآية تساعد في إكمال الإيقاع وتكوينه واتساقه مع جو المشهد الرهيب العميق ".
" أما قوله تعالى { يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } فالموسيقى فيه تشبه الموجة الرخية في ارتفاعها لقمتها وانبساطها في نهايتها في هدوء واطمئنان يتفقان مع جو الطمأنينة في المشهد كله
تأثير الموسيقى القرآنية في النفس
يقول الدكتور مصطفى محمود" إذا كانت العبارة القرآنية لا تقع على آذاننا اليوم موقع السحر والعجب والذهول، فالسبب هو التعود والألفة والمعايشة منذ الطفولة والبلادة والإغراق في عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول لغتنا. ثم أسلوب الأداء الرتيب الممل الذي نسمعه من مرتلين محترفين يكررون السور من أولها إلى آخرها بنبرة واحدة لا يختلف فيها موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من موقف البشرى من موقف العبرة. نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني وتتسطح العبارات وبالمثل بعض المشايخ ممن يقرأ القرآن على سبيل اللعلعة دون أن ينبض شيء في قلبه... ثم المناسبات الكثيرة التي يقرأ القرآن فيها روتينياً... ثم الحياة العصرية التي تعددت فيها المشاغل وتوزع الانتباه وتحجر القلب وتعقدت النفوس وصدئت الأرواح"
وهذا كلام صحيح فالقلوب يعلوها الصدأ كما يعلو الحديد، إذا طال عليه الأمد وتغشاها أدران الغفلة إذا ما انغمست في حمأة الغرائز والشهوات، لكن الدكتور مصطفى محمود يرى أن الأمر لا يحتاج إلا إلى لحظة صفاء تعيد المسلم إلى عالم الطهر والنقاء، حيث يقول " وبرغم هذا كله فإن لحظة صفاء ينزع الواحد فيها نفسه من هذه البيئة اللزجة، ويرتد فيها طفلاً بكراً وترتد له نفسه على شفافيتها، كفيلة بأن تعيد إليه ذلك الطعم الفريد والنكهة المذهلة والإيقاع المطرب الجميل في القرآن.. وكفيلة بأن توقفه مذهولاً من جديد"
أماالتأثر بالموسيقى الصوتية فإنه يخضع لظروف كل مستمع النفسية يقول "ميخائيل الله وردي" " إذا كانت نفس امرئ بحاجة إلى شيء من الموسيقى الفرحة؛ فإنها لا تدرك في الساعة معنى لجمال قطعة محزنة، وإذا كانت بحاجة إلى شيء من الموسيقى الحماسية كرهت آنئذ كل نوع من الموسيقى التي تبعث على الهدوء والاستكانة"
وهذا بخلاف القرآن فالمسلم إذا بدا يرتل آيات من القرآن الكريم أو يستمع إلى قارئ يرتلها سواء أكان حزينا أو فرحا، فإنه يشعر بالأنس في كلتا الحالتين. ولن يبرم من سماع القرآن أو يسأم منه إلا إذا كان منافقا خالصا
الجمال الموسيقي
لا شك أن الموسيقى تنطوي على كثير من الجمال الساحر وهو الذي يجعل النفس تأنس بها وتسترخي أمامها، يقول "ميخائييل الله وردي" عن حقيقة هذا الجمال "يستأسرك بدون عنف ويجتذبك كالمغناطيس بيد لطيفة ناعمة فتشعر أمامه بارتجافة لذيذة كما يحدث عند مفاجأة شائقة وهو يرنح أعطافك كالصهباء فكأنك تستنشق عبير الزهر أو تستروح نفحات الرياض في مطلع الفجر"
هذا عن الموسيقى الصوتية أما الموسيقى القرآنية؛ فإنها وإن كانت تنطوي على كثير من الجمال الذي لا يعد ولا يحصى فإن هذا الجمال ليس غرضا في حد ذاته؛ وإنما الغرض أن تجعل هذه الموسيقى المؤمن يشعر بالسرور يجلل نفسه، أو بالحزن يستولي على فؤاده، وبالأنوار الإلهية تغمر كيانه وتغشى قلبه وتأتلق أمام ناظريه، فيخبت لله ويخشع قلبه للذكر، وتظهر له تفاهة الدنيا وما فيها من متع وشهوات زائلة، فتتوق نفسه إلى مزيد من العبودية لله، يحرر روحه من قفص الجسد لتعود إلى بارئها نقية طاهرة.
مقاييس جمال الموسيقي
وقد وضع الموسيقيون مقاييس لمعرفة مدى جمال اللحن، يقول "ميخائيل الله وردي"" إن كانت القطعة الموسيقية مغناة فإن صرف لحنها الذهن عن التأمل بمعاني الكلام فهي جميلة؛ لأن ذلك يفيد أن النفس قد هامت بها ووجدت في اللحن ما يشغلها عن معاني الكلام فلم يبق للذهن مجال كي يمثل دوره في تحليل المعاني وإيصالها إلى النفس التي انشغلت مباشرة بجمال اللحن.
أما إذا كانت القطعة الموسيقية صامتة أو مغناة بلغة لا يفهمها السامع فإن حركت في النفس شعورا ما أو رسمت فيها صورة واضحة مما تقدم ذكره فهي قطعة جميلة، ومن شروطها أن تخلق شعورا من الغبطة والفرح أو الحزن والاستكانة أو العطف أو الحماس أو غيرها من الأحاسيس المتعددة ، ومن خصائص موسيقى كهذه أن تحمل المرأ على الانتباه والإصغاء وتشغله حتى لا يرد على سائل إذ يتخيل نفسه مرفرفة فوق البحار أو منطلقة مع العصافير المزقزقة أو مياسة بين الرياض أو تائهة في مجاهيل الأرض".
لكن الموسيقى القرآنية شيء آخر غير هذه الموسيقى المخدرة بجمالها، الذي يجعل الإنسان يحلق في عالم الأوهام، ناسيا نفسه وربه، لأنها وسيلة لحمل النفس على الإصغاء والخشوع، ولا تستهدف الجمال الذي ليس له هدف إلا اللذة أو المتعة .
علاقة القرآن الكريم بالموسيقى الصوتية:
أما علاقة القرآن الكريم بالموسيقى الصوتية فإما أن تكون علاقة تنافر وتضاد، أو تكون علاقة حياد ويستحيل أن تكون علاقة توافق وانسجام؛ لأن الموسيقى الصوتية ليست جزءا من القرآن الكريم، ولا القرآن الكريم جزءا منها - حكم الموسيقى شرعا قد استنفد كثيرا من مداد العلماء وجهد الباحثين، ولم يعد فيه زيادة لمستزيد – ولكن لا خلاف بين علماء المسلمين أن القرآن لا يجوز أن يلحن وفق القواعد الموسيقية أو أن يقرأ مع استعمال آلات الموسيقى.
بل أستطيع أن أقول جازما بأن علاقة القرآن الكريم بالموسيقى ليست علاقة توافق وانسجام البتة لأن القرآن الكريم يهدف إلى أن تخشع القلوب، وتخضع النفس خشية من الله وخوفا منه { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } والموسيقى لا تثير في النفس الخشوع أو الخوف، بل تحرك فيها دواع الطرب وتنسيه الهموم،أو تدعوه إلى التأمل الهادئ، وربما فعلت في سامعها ما تفعله الخمر من تخدير، وإنه لمن الغريب حقا أن تشتبه الموسيقى الصوتية التي قد تخدر سامعيها أو تستفزهم فيرقصون، مع الموسيقى القرآنية التي تملأ أقطار النفس خشوعا لله وإخباتا فينسى النشوة والطرب ويستسلم لخشية الله تعالى، قال تعالى [ ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ]
أما تحويل القرآن الكريم إلى ألحان موسيقية فيقول عنه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى " تحويل القرآن إلى تلاوة منغومة فحسب يستمع إليها عشاق الطرب هو الذي جعل اليهود والنصارى يذيعونه في الآفاق، وهم واثقون من أنه لن يحيي مواتا"
ومن يقرأ القرآن الكريم لمجرد التلذذ بموسيقاه اللغوية يصدق عليه عموم قوله صلى الله عليه وسلم " يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" وهذا الصنف من الناس سيسوقهم القرآن يوم القيامة إلى الجحيم ويكون شاهدا عليهم وليس شاهدا لهم.
إن عناية العرب بالموسيقى عناية قديمة وقد قدموا للموسيقى العالمية إنجازا كبيرا كما بينت ذلك الدكتورة "زاكريد هونكا" لاكتشافهم البناء الزمني للنغم الذي يساعد على القياس الزمني للموسيقى، ولكن هذا لا صلة له بالقرآن الكريم ولا بعلومه المستنبطة منه ، بينما ساهمت المسيحية في تطوير الموسيقى الغربية وأعطتها " الهارمونية" التي تعد أثرا من آثار الكنيسة الروحية؛لأن الموسيقى جزء من طقوس العبادة عند النصارى لكن هذا كله لا يعني أن الإسلام " الوحي " قد قدم للموسيقى شيئا أو أنه مطالب بأن يقدمه لها؛ لأن هدفه أسمى وغاية أعظم وشأنه أجل إنه يحيي الناس من الموات [ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها]
الخلاصة
والخلاصة أن الادعاء بأن القرآن يتضمن موسيقى يمكن أن يعكف عليها الفنانون ليستخرجوا منها ألحانا موسيقية مجرد ادعاء باطل لا يمكن أن يصدر من مجتهد في العلوم الشرعية، ولا باحث ضليع في الدراسات القرآنية عارف بمقاصد القرآن الكريم؛ لأنه يؤدي إلى إفراغ القرآن من محتواه العقدي وسمته الربانية ويجرء السفهاء من الناس عليه.